كفاح الزواج
طالت مدة خطوبتها وتمددت كثيرا فغضب أهلها واغتاظوا من هذه الوضعية التي لا تخدم مصلحة ابنتهم وهي تتقدم في السن وتنتظر خطيبها ليجهز نفسه للزواج ،فتغلق جميع الأبواب أمام بقية الخطاب لتقترب من سن اليأس وتنخرط بالتالي في عالم العانسات ومن "فاتهن القطار " كما نقول.
لذلك ، طلبوا منها التحدث إليه بجدية لتحديد موعد نهائي للزواج ووضع حد لهذه الوضعية المزرية ، ناهيك وأن قريباتها وقريناتها تزوجن ولم يبقين طويلا مثلها على هذه الشاكلة رغم أن معظمهن قد خطبن بعدها وها إنهن أمهات ولم تزل هي آنسة في انتظار انفراج كربها.
فهاتفته ذات اليوم بعد أن اغرورقت عيناها بالدموع جراء ما سمعته من إهانات وسب وشتم من والدتها خصوصا التي اعتبرت أن" ابنتها تركتها أضحوكة بين الجيران والأقارب جراء هذه الخطبة وهذا الخطيب النحس" لما ولجت بيتها وأحكمت غلق الباب خلفها في انتظار رده على مكالمتها ، فلم يطل انتظارها حتى سمعت صوته متثاقلا ومتثائبا وقد استفاق من النوم لتوه :
- آلو
- أهلا برهان ، كيف حالك؟
- الحمد لله ، وأنت؟
- ألف حمد وشكر لله
- خيرا إن شاء الله ، هل جد جديد في عملك؟ (وقد اشتكت سابقا سوء معاملة رئيسها لها واستعداده للتخلص منها إن لم ترضخ وتعمل كما يريد فتكون عينه في العمل وتنقل له كل ما يدور خلفه ، وهو ما رفضته علانية وأبدت استعدادها للبطالة على ايذاء زملائها)
- الأمر لا يتعلق بعملي يا برهان ، الأمر متعلق بمستقبلنا
- (مقاطعا وغاضبا) تقطعين نومي لتقصين موضوعا لطالما تناقشنا فيه يا رؤى؟
- (مقاطعة) تناقشنا ولم نصل إلى حل ، تحدثنا أكثر من مرة طيلة ثمان سنوات من الخطبة ولم نتقدم قيد أنملة ، وعدتني ولم تلتزم ولو مرة ، خططت وفشلت ، قررت وتراجعت ، خطبتني وبقيت مكانك دون حراك وقد اشتعلت رؤوسنا شيبا وشرعت السنون تستهزئ منا...
- (مقاطعا) ما هذا الهراء؟ هات من الآخر
- (بصوت مرتفع وغاضبة أيما غضب) من الآخر فقد فاض كأس الصبر وتلاعبت بي الألسن وتقاذتني وعائلتي إلى أن بتنا حديث العائلات في كل مجلس .بات الأمر مقلقا للجميع ولم يعد لي مجال للدفاع عنك أو اختلاق الأعذار
- (مقاطعا) أوجزي وهاتي المفيد
- (مستغربة) المفيد؟؟؟؟؟ ألا تعرف طلبي؟ ألم تع بعد بوضعيتنا وحالتنا؟ إلى متى سنبقى هكذا؟
- (متأففا ومقاطعا وهو يصرخ) ما الذي أستطيع فعله ولم أفعله؟ من أين لي أن أوفر مصاريف الزواج وعملي متوسط الدخل إن لم أقل قليله وفي عهدتي أم مقعدة شديدة المرض وكثيرة الأدوية وزيارة الأطباء؟ من أين لي أن أرضي أهلك وطلباتهم وأحلامهم المتجددة من فترة لأخرى وكأنني من أعيان المدينة وأثريائها؟
- (بعد أن صمت للحظات لاسترجاع أنفاسه) لم أطلب المستحيل ، تعال نتزوج بما لدينا ، لننطلق من الصفر ، فقد قال الله تعالى " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم" - النور 32 -
- (مستدركا) لا يمكنني فعل ذلك بعد هذه المدة يا رؤى ،فالأمر ليس بهذه السهولة
- (صائحة) إلى متى؟؟؟؟؟
- (مهدئا من روعها) والله العظيم لا علم لي بالغيب ، فقد توكلت على الله في انتظار الفرج
- (مقاطعة) كالعادة ، أنت كالطبل منتفخ المظهر أجوف الداخل
- (ضاحكا) هذه مقولة لا أؤمن بها يا روحي ، فالطبل فعلا منتفخ ، لكن ما بداخله ؟ ستجيبين الهواء. هل هناك من يعيش بدون هواء؟ من يستطيع البقاء على الأرض دون هواء؟ إذن فالهواء أساس الحياة إلى جانب الماء
- (ضاحكة ووجهها مبلل بالدموع) كف عن المزاح وتحرك فلم أعد أتحمل هذه الوضعية...
وواصلا الحوار دون أن يصلا إلى حل لمشكلتهما رغم كل المحاولات المبذولة من طرفهما الشيء الذي جعلهما يتفقان على اجتماع الأسرتين مجددا للبحث عن مخرج من هذه الأزمة التي استفحلت وتلاعبت بهما وبحبهما الذي كان وردة ربيع فبات ورقة خريف...
بعدها ، جلست رؤى على فراشها -ولا تزال تبكي- وهي تتذكر ذات يوم حين خرجت من شركة بالمدينة باكية بعد فشلها في البحث عن عمل بعد أن أعلموها أنهم يبحثون على أصحاب الشهائد العليا في عندها وهي من خريجي المدرسة الإبتدائية لا غير بعد استعصاء الدراسة عليها وصعوبة فهمها وتلقيها ، فرأت يدا فجأة تمدد لها منديلا ورقي التشفف عيناها -وكان برهان- وقد حاول التخفيف عنها ومؤازرتها - وهو يعمل حارسا في تلك الشركة- ثم وعدها باعانتها على البحث عن عمل في بقية الشركات المنتصبة في المنطقة الصناعية في المدينة ، ومنها تواعدا مرارا وتكرارا للوصول إلى الهدف المنشود وقد تكونت في الأثناء بينهما علاقة احترام وتقدير ، فاعجاب واستحسان ، وصولا إلى حب وغرام فخطبة وارتباط رسمي ولم يحققا الهدف المنشود متى فشلا في الحصول على عمل لها.
وبعد فترة طويلة تحصلت على عمل في شركة صغرى بمرتب متوسط نوعا ما لكنه كاف لتجهيزها وتحضير لوازم عرسها وما يتطلبه من شراءات رغم سوء معاملة الرئيس المدير العام وسعيه للتجسس على بقية العملة على حسابها بشتى الطرق والوسائل.
ومنها ، استسلمت للنوم ولم تشرق شمس حبها ولم يزهر عرسها ولا موعده الذي استعصى أكثر من استعصاء هلال رمضان والعيد بالعين المجردة.
فاستمرت هذه الوضعية ولم تتحسن البتة ، بل تعكرت أكثر خاصة بعد موت أم برهان واعتزاله الدنيا وهربه من الجميع مما استوجب تدخل القريب والبعيد حتى تكاثفت الجهود وتحركت العقول والجيوب واسرع الجميع لاتمام هذه الزيجة بما تيسر درءا لكل مكروه محتمل بعد تقدم العمر بهما وكثرة المشاكل بين الخطيب وعائلة خطيبته...
وها أنهما اليوم بعد قرابة ثلاثين سنة من الزواج يتذكران ما مرا به ويقصصنه على بناتهما لألا يقعن فيما وقعا فيه قبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق